بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وعلى آله وصحبه وسلم .
يسرنا أن نفتتح مشروعاً طيباً ، هو : سلسلة من اللقاءات الممتعة مع بعض كبار العائلة ، نرتوي من خبرتهم ، ونجول وإياهم في شعاب الماضي وعبق التاريخ .
ويسرنا أن يكون استفتاح هذه السلسلة هذا اللقاء الماتع مع العم : أبو عبد الله ، عبد العزيز بن محمد بن راشد . وهو ممن لديه معلومات مهمة هي بمتابة الوثائق التاريخية ، تستفيد منها أجيال العائلة . وقد كان رحب الصدر والضمير ، أفاد وجاد بما لديه رغم كثرة مشاغله .
واللقاء طويل، وأنا ذاكرٌ منه ما يسمح به حجم هذه الزاوية من المجلة . فإلى اللقاء:
س/ نود أن تحدثنا عن ميلادك: متى كان ، وأين من المحمدي بالدلم ؟
ج/ ولدت سنة (طلعة السلمية) سنة 1351 هـ ، في الموقع الذي كان يعرف باسم (الشمالية) ، شمالي المحمدي ، التي فيها أعمامك الآن ، فكان يطلق عليها الشمالية .
س/ يعني كانت هي أقصى شمال المحمدي حينذاك، ليس بعدها شيء ؟
ج/ نعم .
س/ البيت الذي ولدت فيه ، من كان يسكنه مع الوالد؟
ج/ كان يسكنه مع الوالد : عمي ناصر ، وعمي سعد ، وعمي علي ، مع والدهم جدي راشد ، وكانوا هم القائمين على ذلك المكان والمزرعة .
س/ العم إبراهيم كان طلع من قبل ؟
ج/ نعم ، طلع من قبل ، وهم بقوا في دبرة والدهم .
س/ من الذي يلي إبراهيم في السن ؟
ج/ يليه العم ناصر ، ثم الوالد محمد ، ثم العم عبد العزيز ، ثم زيد ، ثم عبد الرحمن ، والأخيران قتلا بالسبلة (سنة القاعية) 1347 هـ في جيش الملك عبد العزيز ، ولم ينج إلا الوالد .
س/ يذكر عن والدك رحمه الله قصة في تلك المعركة ، وأنه حين أصيب في نحره تطبَّب عند عربان هناك ، فما القصة؟
ج/ الوالد يذكر لي : أنه حين صُوِّب جاءه ثلاثة رجال من الخصوم ، وكانوا يمشون على المصابين والجرحى ليزكّوهم (يقتلونهم وينهون رمقهم) ، فقال أحدهم وهو يشير إليه : خلونا نستعلم من هذا المصوّب ، فسألوه : ما الذي جاء به هنا؟ فقال : أنا طباخ معهم ولست محارباً ، فقالوا : تكذب ، وكادوا يُنْهُون عليه ، فقال : علامة صدقي ذاك القدر يطبخ ، ثم أمسك برجل أكبرهم وقال له : أنا دخيلك ، فمنع أصحابه منه ، وقال : هذا دخيلي ولا أحد يقربه ، وإن أصابه شيء فما يروح منكم شبّاب ضَوّ ، فعنّز له ، وذهب به إلى امرأة عجمية يقال لها : بنت كمعان ، وقال : احرصي عليه ، فهو منيعي ، وإذا سألك أبوك عنه فأخبريه أنه منيعي ، فسنّدت له بمسام أيمن وأيسر ومن الخلف، وأتت بملح وبارود وغسلت الدم ، وكانت إصابته في يمين الحنك، دخلت من الأمام وخرجت من الخلف، وأتت بعجين وبارود وملح وضمدت الجرح، والملح يمضّ الدم ، وكلما خمرت عجينة من الدم استبدلتها بأخرى، ونهته أن يرقد أو يميل حتى لا ينفتق الجرح ويعود النزيف.
وحين أتى والدها وسألها من هذا؟ فأخبرته، فقال : يا بنتي كُبِّيه (دعيه) ، هذا رايح ميت .
فجلس على الوسام أربعة أيام، والتأم جرحه، ونجاه الله ، وخرج والتقى بأصحابه، وكانوا قد أتوا للبحث عن رفقائهم المصابين، وليحصوا المفقودين ، فبدأ يبحث معهم عن إخوانه، فلم يجدوهم، إذ قتلوا جميعا.
س/ هل كان هو وإخوانه في تلة واحدة حين المعركة؟
ج/ كان أميرهم ابن عرفج ، وارتقى بهم على رأس حزم مرتفع، وناطحوا القوم ، وكلما أقبلوا عليهم ردوهم بالرمي، وكانوا يتوقَّون بغترهم ويرمون، حتى استطاع الخصوم الالتفاف عليهم من خلف الحزم فغلبوهم، وقتلوا من قتلوا، وأصابوا البعض، والبعض هرب ونجى.
س/ كم كان عمر عمك عبد الرحمن وزيد حين شاركا بالحرب؟
ج/ في مقتبل العمر، صبيان يخطَّب لهم، وكانوا يشتغلون صبيان عند غيرهم ، يصدّرون السواني عند آل يحيى وغيرهم ، يسترزقون الله، فملُّوا من الصَّدَر، وقالوا: نروح ندوّر العيشة.
س/ كان معهم ابن العم محمد بن راشد بن عبد الله؟
ج/ نعم، راعي العاقولة، وقد قتل فيمن قتل ، ولم ينج إلا والدي . رحمهم الله جميعا.
س/ وعمك عبد العزيز؟
ج/ لم يكن معهم؛ بل كان مريضا حين خروجهم، أصيب بتلوث، ومات على فراشه عند أهله.
س/ وفاته قريبة من مقتل إخوته؟
ج/ نعم، هو مات بالمرض بعد خروجهم ، ووالدتي كانت مع عمي عبد العزيز ، وقد تزوجها والدي بعد عودته .
س/ كنتم في شمال المحمدي ، ثم انتقلتم إلى هنا في الصحنة؟
ج/ نعم ، اشتراه والدي من جدي عبد الله بن مطرد، استقطعه منه في دين كان عليه للوالد، فاشترى منه جنوبي المكان ، وشماليه اشتراه من ابن سعيد .
س/ كم عمرك حينها؟
ج/ يوم يحفر والدي البير هذه كان في سنة يسمونها سنة (جَبَّار)، قبل نحو 70 عاماً من الآن. وعمري وقتها كان 9 سنوات.
س/ مَنْ مِنَ العائلة خرج من الدلم بحثاً عن الرزق؟
ج/ والدي ذهب للبحر، واشتغل في (العقير)، فعمل حَمَّالاً عند شخص ، حيث اشترى له بعيراً وطلب من والدي أن يحمِّل عليه براتب، فكان يجمل الأرز والبر وغيره من محل لآخر، وبقي سنوات هناك يكدّ ويعمل، ثم رجع. وعمي ناصر كدّ سنة خارج الدلم ثم رجع.
س/ ومن أبناء العم عبد العزيز؟
ج/ نعم ، محمد بن عبد العزيز ذهب عند سعود بن جلوي ، خوي، وكان نشيطاً ، وأحبه ابن جلوي، حتى تقوّى ورجع.
س/ حين كان ابن جلوي بالحسا؟
ج/ نعم.
س/ هل كتب لابن جلوي؟
ج/ لا، هو كان خوي عنده، لكن بلَّغه بعض الأخويا أن محمداً يعرف يكتب، ولم يكونوا يعلمون عنه أولاً، ولم يخبرهم هو، ومن حينها اعتمد عليه ابن جلوي كثيراً في الكتابة.
س/ وأبناء عمنا آل عبد الله؟
ج/ الذي يذكرونه لي أنه ذهب منهم ناصر، وصار خوي عند أمير في الجنوب، في أبها.
س/ أين كانت منازل آل عبد العزيز وآل عبد الله من المحمدي؟
ج/ منذ أن عرفت نفسي وآل عبد الله في العاقولة . وعبد العزيز في شمال المحمدي، في بير اشتراها وسماها (نبعة)، وأبناؤه بها إلى اليوم. وعيسى بجوار آل مرضي، شمال محل ناصر بن تويم. فلم يكن بعيدا عنا حينها.
س/ صف لنا طبيعة الحياة والعمل وقت الصغر.
ج/ كانت الحياة في المزارع، وكان أعمامي مع والدي ووالدهم جدي راشد ملتئمين جميعاً، ويدهم واحدة، ونيتهم طيبة، ورزقهم الله، وكانوا من أكثر أهل المحمدي ثروة، وعندهم إبل، وماء بيرهم طيب، وعندهم صبيان يشتغلون لهم، وكانوا يسقون السواني، سانية بالليل، وسانية بالنهار، ست إبل تصدّر بالليل، وست بالنهار. وكانوا يجتمعون الضحى بمجلسهم، ويأتي معهم الجيران: آل سويلم، والقحازى، وإذا اجتمعوا طلبوا من والدي، أو عمي علي أن يحلب لهم الخلفات.
وأذكر جدي راشد طلع يوماً فرأى الزرع متمايلا من العيش، والرسلة متمايلة من كبر الحب، والبيت مليان من العيش والتمر، والإبل سمان متعافية، فدخل على أبنائه بالمجلس وقال: يا ناصر، والله زانت خُوَينة، شف من بتاخذ منا ذا الزمان، يقصد: الدنيا زائلة ، ولم تمض السنة إلا وقد توفي، فصارت أخذته.
وبقوا بعده يداً واحدة، تجمعهم أمهم، وصاروا مضرب المثل في شمالي المحمدي، هم والقحازى.
س/ جدنا راشد عنده زوجتين؟
ج/ الأولى ما لحقت عليها . ثم أخذ جدتي ، وهي التي خلفت له هؤلاء العيال .
س/ اسمها؟
ج/ من آل خشلان ، وأخوالها : آل حركان، وراشد بن حركان، صاحب الديوان الشعري المعروف هو خالها، فهو خالنا نحن، وكان يأتي عندنا ذاك الوقت يَتَلَجَّا بجدي وأعمامي، لكثرة الخير عندهم، وكانوا يعطونه من العيش والتمر.
س/ عماتك أربع، من هن؟
ج/ الذي أعرفه: هياء، وليست من جدي، وهي أم آل تويم، ومنيرة: أم آل مطرد، وشيخة: أم عيال سعد بن عمر المطوع.
س/ متى عملت في هيئة الأمر بالمعروف؟
ج/ عملت فيها 16 سنة، وكان يرأسنا الشيخ/ عبد الرحمن بن جلال، ثم تقاعدت، وبعد التقاعد بشهر طلبني ابن جلال للعودة، فعدت وعملت معهم 6 سنوات، ثم انتهى عملي معهم.
س/ تذكر أيام الشيخ عبد العزيز بن باز حين كان بالدلم؟
ج/ نعم، وقد درست عليه مع الشيخ ابن عوين ، والشيخ العويرضي، وكنت أدرس عليه في المسجد، وكان صوتي في القرآن حسناً ، فكلما جاء الشيخ يقرأ سورة أو آيات قال : اقرأ يا عبد العزيز، فإذا قرأت فسرها للإخوان ، وبقيت أقرأ عنده هكذا أسبوعاً ، ثم منعني والدي وقال : لا تذهب ، وكان والدي حينذاك قد بدأ بحفر بيرنا هذه وكان محتاجاً لخدمتي له ، فمنعني من الذهاب ، وحاولت فأبى .
وجاء الشيخ ابن باز، وعبد العزيز بن جلال، وابن عتيق ، وقالوا للوالد: يا محمد، نطلبك أنك تدع الولد، نريده يدرس مع الإخوان، فقال لهم: ما لي إلا الله ربنا ثم هو، هو الذي يشتغل ويصلح مكاني معي. والحمد لله، ما ندري ما الذي فيه الخيرة .
س/ ابن باز كان يمر عليكم؟
ج/ ابن باز كان رفيقاً خاصاً للجلافا، كل يوم يأتي تالي النهار لهم، ويجلس معهم، ويتقهوى ويتحدث معهم، والحمد لله كان أعمامي أهل دين، وكان يحبهم حب دين، إلى أن نقل للرياض.
س/ حين وفاة الملك عبد العزيز كان عمرك حينذاك قريباً من 22 سنة، فهل تذكر شيئاً من ذلك؟
ج/ كنت حينها طارش (ذاهب) بخضرة للرياض في تلك الليلة، وإذا (رهجة) العالم، الذي يبكي، والذي يصرخ، وكأنما أظلمت عليهم الدنيا، فلفينا (ذهبنا) على نسيب لنا يقال له : ابن عويدان، الله يرحمه، وأفطرنا عنده، وعدنا سريعا لديرتنا.
والحمد لله حاء عياله فسدوا مسده، الله يعزهم.
س/ كان الناس خائفين من شيء حينها؟
ج/ خائفين من ناهب ومنهوب.
س/ ماذا تتذكر من زيارة الملك سعود للدلم؟
ج/ أذكر أنني ووالدي واقفين في محل بيتنا هذا الآن، وكان فيه ساقي رفيع، وكنا طلعنا على الخط الذي سيمر عليه ، ومعنا التمر ودلال القهوة، نريده يتقهوى عندما يمر، لكن حين مر أشار ولوّح لنا بيده، ومضى ولم يشرب قهوتنا.
س/ أين كان مكان احتفال أهل الدلم بقدومه؟
ج/ كان غرب جامع الأمير سلمان بن محمد، ولم يكن ذاك الوقت في الصحنة لا بيوت ولا عمار أبداً ، لم يكن بها إلا محل آل تويم، وآل مطرد، ونحن، وآل سعيد، وراشد السماري، وباقي الصحنة سَلَم وحزوم.
س/ حضرتم الاحتفال؟
ج/ حضرنا بعضه.
س/ ماذا تذكر عن (السيح)، ومتى بدأ العمران به؟
ج/ كان كله خلاء ، لا سكن فيه، ولم يكن فيه إلا واحد يقال له: النشمي، جاء وعمر له بيوت طين، ثم مشت الناس له.
س/ كيف كنت تذهب للرياض؟
ج/ على ونيتات تحمل خضرة، ونركب صندوقها، ونتجه جهة فرزان، ثم إلى الرياض، ولم يكن هناك طريق مسفلت، والرياض كان صغيراً، كنا نذهب من المقيبرة إلى العود على أقدامنا، وكلها سلم وحزوم، ليس بها أي إسفلت.
في ختام هذا اللقاء الطيب وهذه الجلسة الماتعة نشكر العم: أبو عبد الله عبد العزيز بن محمد بن راشد على ما أفاد به برحابة صدر، ونسأل الله تعالى أن يبارك فيه وعمره وذريته، ولا يريه أي مكروه .
والله أعلم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
شعبان، 1432 هـ.
عن الكاتب