إضاءات من سيرة العم علي بن راشد بن محمد رحمه الله.

ولد عام 1340 هـ، بالمحمدي في الدلم، وكان أصغر إخوته وأخواته.

نشأ في كنف أبويه بمزرعة والده في الأرض التي كانت تسمى (الشمالية) في المحمدي بالدلم، وقد أرضعته أخته الكبرى هيا مع بنت من بناتها، فكان خالاً لبعض عائلة أبا الحسن.

كما أنه نشأ وإخوته في بيت واحد، مع والدهم الجد راشد، ثم استقل كل من أخويه إبراهيم ومحمد فاشتريا مزارع لهما.

وفي عام 1383 تم تقسيم مزرعة والدهم راشد بين كل من ناصر ومحمد وسعد وعلي.

كان العم علي ووالده وإخوانه أصحاب فضل ودين، ولا أدل على ذلك من أن الشيخ عبدالعزيز بن باز كان يمر بهم كل يوم يتناول القهوة معهم ويباسطهم الحديث. حين كان قاضيا بالدلم، وحين صدر قرار الملك عبدالعزيز بنقل الشيخ ابن باز للرياض عام 1371هـ جاء وودع العم علي وإخوانه، بل حتى ودع نساءهم. وقد حزن أهل الدلم لفراقه لهم حينئذ.

عمل العم علي في الزراعة منذ طفولته، كما هو حال أهل بلده.

وتزوج مرتين، حيث توفيت زوجته الأولى رحمها الله إثر مرض ألم بها، ثم تزوج بعدها.

وكان ممن رحلوا لطلب الرزق، حيث قدم للرياض بعد وفاة زوجته الأولى وقبل زواجه الثاني، من أجل تحصيل تكلفة الزواج الثاني، وعمل في البناء مدة ثم رجع.

كما عمل مدة طويلة مؤذناً لمسجد مزرعته إلى وفاته رحمه الله.

 

** من أهم صفاته:

كان عظيم البر بوالديه وإخوته،  قائما بخدمته، سامعاً لهم مطيعاً، وكان يَعُدُّ أخاه ناصر بمثابة الأب الثاني له.

كما امتاز بالحلم والهدوء، لا يكاد يغضب من أحد، وكان مبتسماً طلق المحيا دوما، يلاعب الصغير والكبير، اشتهر بالعطف والحنان على أبنائه وبناته وأحفاده.

ولم يكن كثير الكلام، وإنما كان سمته الصمت والاستماع غالباً، عفيف اللسان، لا يتكلم إلا لحاجة، ولا يحب أن يذكر أحداً بسوء، ولا يحب أن يسمع عن أحد سوءاً، بل يغضب من الوشاة.

وكان كريما مضيافا، مجلسه مفتوح لكل ضيف، يفرح بالضيوف، بل لا يكاد يخلو مجلسه كل يوم من ضيف، نهاراً أو ليلاً.

كان وصولاً لرحمه، كثير الزيارة لإخوته وأخواته وجيرانه، بل حتى لأبنائه وبناته، وكان يزور صباح كل يوم أخاه ناصر، الذي يجاوره في المزرعة، كما أنه سخر مزرعته لخدمة أسرته فكان يتم فيها عقد اجتماعات الأسرة بالأعياد منذ عام ١٤١٣ وحتى ١٤١٨، ولم يكن يأخذ مقابلاً على ذلك، بل إنه هو الذي عرض مزرعته لاجتماعات أسرته.

أيضا: كان العم علي حريصاً على تربية أبنائه التربية الصالحة، وحثهم على التدين ومواصلة الدراسة والعلم، ويكافئهم على ذلك، ويتابع أحوالهم في المدرسة، وقد أثمر حرصه على ذلك ثمرا يانعا، فكان أبناؤه امتداداً له في الدين والفضل، وامتد الثمر اليانع إلى أحفاده، فكان منهم القضاة وأساتذة الجامعات وطلبة العلم. ولله الحمد والمنة.

ومن حبه للعلم أنه كان كثيراً ما يحضر المحاضرات الدينية التي تلقى بجوامع الدلم بعد صلاة المغرب.

وكان زاهدا في الدنيا وأموالها لم يُعِرْها اهتماما، وقد عاش في السنوات الأخيرة من حياته في محراب المسجد، وكان كثير الذكر لله تعالى والاستغفار.

كما كان قليل النوم ليلاً، مكثراً من التهجد والدعاء.

وكان ممن اعتاد التبكير إلى صلاة الجمعة، حيث كان يذهب منذ الساعة الثامنة والنصف أو التاسعة للمسجد، ويحرص جداً على ارتداء (البشت) للجمعة، وكذلك للعيدين.

وكان حريصاً على نظافة بدنه وملبسه، يحب السواك في كل حين.

ولم يكن يُذكر اسمه عند أحد سواء في حياته أو بعد وفاته إلا ترحم عليه ودعا له وأثنى على خلقه وهدوئه وحلمه.

 

ومن المواقف التي تدل على كرمه وصلته لرحمه وحسن جيرته: أنه قبل وصول الكهرباء إلى المزارع، قام أحد جيرانه وهو العم محمد النمشان بشراء مولد كهربائي، وزار أهل المزارع لتوصيل الكهرباء لمن يرغب الاشتراك، بمقابل مادي، وفي يوم جمعة زار النمشان مزارع العم علي وإخوته، وكان إخوته قد ذهبوا للصلاة، فاستقبله العم علي وذكر له الاشتراك وقدره خمسون ريالا عن كل بيت، فقام  العم  علي وسلمه اشتراك بيوت إخوانه، وخمسين ريالا عن جيرانهم آل سويلم، وقال له: هؤلاء جيراننا وأنسابنا وظروفهم أنا أعرفها، ثم قال النمشان: نحتاج أعواد لخشب من شجر الأثل لمد الأسلاك عليها، وكان الخشب في ذلك الوقت ثمينا جدا، فقال له العم علي: هناك خشب خلف بيتي، خذه في سيارة وانقله عني وإخوتي وجيراني، ولم يأخذ مقابلاً على الخشب.

وموقف آخر: أنه كان كثيرا ما يمكِّن جيرانه من ري مزارعهم بماء البئر الخاص بمزرعته، ولا يجد في نفسه ضيقاً من ذلك.

وذات مرة: جاء إليه شخص يخبره أن جيرانه اعتدوا على جزء من أرض مزرعته، فغضب من الواشي، وقال له بكل حزم: هؤلاء جيراني، وأهل وُدِّي، ولو أخذوا كل مزرعتي لم أردهم، وترك الواشي وذهب للمسجد.

وأيضاً: حين جاء بعض أهل الإحسان لتسوير مقبرة عميرة التاريخية الواقعة داخل مزرعته من الجهة الشمالية، بعد اندراس معالمها وحدودها، واستأذنوه في ذلك أذن لهم، بل تبرع لهم بجزء من مزرعته ليدخلوه ضمن المقبرة، ولم يأخذ منهم مقابلا على ذلك، بل إنه هو من بادر بهذا التبرع من غير طلب منهم.

ومن المواقف الراسخة في ذلك أيضاً: أن يوم عودته من العمل بالرياض كان مشهوداً من أهله وجيرانه، حيث قدم ومعه هدايا كثيرة متنوعة للصغار والكبار، اشتراها من الرياض، ووضعها في لفافة كبيرة جداً، وحين وصل، فتح اللفافة ونادى أبناءه وبناته وإخوته وجيرانه وأبناءهم ليأخذوا من هذه الهدايا ما شاؤوا، فاجتمع الكبير والصغير منهم عنده، كل يأخذ ما أحب، من غير مقابل.

 

أصيب بمرض السرطان في آخر حياته، وأدخل المستشفى مدة تزيد على الشهر ونصف، وكان مستسلما لقضاء الله وقدره، راضيا بما كتبه عليه، كان محياه طيبا و كان مبتسما لمن يزوره، رغم آلام المرض، يرتدي ثيابا نظيفة، والسواك لا يفارقه، كثير الذكر لله تعالى وتسبيحه.

كان كثير السؤال عن أبنائه وبناته وهو في المستشفى، يفرح كثيرا برؤيتهم، وكأنه يحس أنه سيرحل عنهم قريباً، وقد يضمهم لصدره أحياناً إذا جاؤوا يزورونه، وكأنه يودعهم.

توفي بعد معاناة مع المرض في صفر عام ١٤١٨هـ، عن عمر 78 عاماً، وكانت جنازته مشهودة في جامع الملك عبدالعزيز وسط الدلم، حيث امتلأ الجامع في صلاة العصر، وبعد الصلاة عليه تبادر الرجال لحمل الجنازة على أكتافهم من الجامع إلى المقبرة، ولم توضع بالسيارة كالمعتاد، رغم أن المسافة ليست قليلة، وحزن عليه الكبير والصغير.

ومن القصص التي تسطر في ذلك: أن العم علي زار أخاه سعداً في عيد الأضحى عام 1417هـ، قبل وفاة علي بنحو شهرين، وكان العم سعد مقعداً وأصابه مرض النسيان، بينما علي لازال يمشي، فلما راى اخاه سعداً على تلك الحال دمعت عيناه وقال: (الله لا يطرحنا مثل ما طحت). فاستجاب الله دعوته، وتوفي علي في شهر صفر عام 1418هـ.

وفي ذلك اللقاء الذي كان آخر لقاء بينهما قال علي وهو يودع أخاه سعد: (إن شاء الله نلتقي في الجنة). وكانت هذه الكلمات مؤثرةً في الحضور.

وقد رثاه حفيده الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن علي بقصيدة عَنْوَن لها بـ (حروف الرثاء).

 

له من الأبناء ١٣ هم: (فهد، وراشد، وعبدالعزيز، وإبراهيم، ومحمد، وعبدالله، وعبدالرحمن، ومنصور، وخالد، وعادل، وبندر، وعبدالمجيد، وناصر)، وله من البنات ٦ .

 

رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. وحفظ أبناءه وبناته وأحفاده أجمعين.

 

جمع وإعداد: د. عادل بن عبدالعزيز بن علي الجليفي.

 

وهاهي قصيدة (حروف الرثاء) لحفيده: الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن علي:

 

حروف الرثاء أتت للأمامْ *** وجاءت بفوجٍ كسرب الحمامْْ

وقالت بلفظٍ قويٍّ رثاءْ *** رثاءً جميلاً بأحلى كلامْ

فسالت دموعي بوجهٍ حزينْ *** فصارت جفوني بها لاتنامْ

فقد صاح قلبي لفقد الهشامْ *** وقد سال دمعي كقطر الغمامْ

وقد سال حبري بحرفٍ طويلْ *** وقد صار حرفي رثاءً لزام

لقد فارق السمع مني كلامْ *** كلاماً جميلاً من الخير دامْ

أَذاناً وذكراً لربٍّ كريمْ *** وجُوداً وخيراً مضى بالوئامْ

فجدِّي عليٌّ عليٌّ شريف *** به الصبر و الحلم الإعتصامْ

فكم ليلةٍ قامها للإلهْ *** فصلى لربي بجنحِ الظلامْ

بأحلى المعيّة يبغي الجنانْ *** بخيرٍ كثيرٍ يريدُ المرامْ

وكفَّاه دوماً لتعطي العطاءْ *** سخيًّا نديًّا يفوق الشهامْ

فسيما التواضعَ في وجههِ *** وزهدٌ عظيمٌ بهِ كالسنامْ

يؤدي الحقوقَ إلى أهلها *** أداءً جميلاً بكلِّ اهتمامْ

وإن جاء شخصٌ بدعوى الغشامْ *** تنازلَ عن حقهِ بالتمامْ

ففي نفسه البعدُ عن ذي الفناءْ *** فلم ينتزعها لدنيا الحُطامْ

فياليت شعري لهذي الخِلالْ *** أراها خِلالاً بنفسي عِظامْ

ألا يا أبافهدِ كم تستريحْ *** بصدرِ المجالسِ دوماً أمامْ

تقودُ الجموعَ-جموعَ البنينْ-*** بحُبٍّ ولطفٍ ، بلى واحترامْ

إلى الخيرِ و البرِّ والاجتماع *** وتُفنِي الفِراقَ بحدِّ السِّهامْ

فدامَ التَّآخِي بهمْ لربِّ كريمْ *** ليمحو الخطايا كقطعِ الحُسامْ

فسار الحُسامُ بجسمٍ نحيلْ *** فأهوىْ به في فراشِ الفطَامْ

أزالَ الخطايا ، فنامَ الهشامْ *** فلم يستطع بل وحتى الكلامْ

فلله دركَ حين الرحيلْ *** توحِّدُ ربي بهذا المقامْ

وحين نظرت لتلك الخِلال *** لقيتَ الإلهَ بأحلى ابتسامْ

فقدْ قدرَ اللهُ موتَ الأنامْ *** ولايبقَ إلا الإلهُ السلامُ

وقد آمنَ القلبُ أن القضاءْ ***لربِّ العبادِ لحقٌّ مُقامْ

فيا ربِّ يسر عليه الحسابْ ***وأنعم عليهِ بفضلِ الكِرامْ

وأحسن إليه بحُورٍ عِيان *** بجناتِ خلدٍ لربِّ الأنامْ

وأجزِلْ عطاءكَ للمحسنينْ *** ليبقوا دواماً بدون انعِدامْ

أياربِّ واحشره يومَ القيامْ *** مع الأنبياءِ بأسما انضِمامْ

وصلِّ وسلم على المصطفىْ *** عِداد الخلائقِ أيضاً دوامْ

فموتُ النبيٍّ لخطبٌ جليلْ *** على العالمينَ أشدُّ اصطدامْ

أبا فهدِ هذا تمامُ الرثاءْ *** سيبقى دواماً وفي كلِّ عامْ

ختاماً أقول: سلامٌ عليكْ *** من القلبِ أُهدِيْ إليكَ السلامْ

اقرا مزيد